علي مردان ليلاني في بداياته الفنية

74

 

علي مردان ليلاني في بداياته الفنية

عطا ترزي باشي 

لم يحظى قارئ من قراء المقامات العراقية في الشمال من اهتمام الباحثين وعنايتهم مثلما حظي به المطرب الراحل علي مردان، اذ أن الذين كتبوا عنه وعن فنه الغنائي قد اشبعوا الموضوع درسا وتمحيصا ولم يتركوا لنا في هذا الشأن إلا النذر اليسير. فأردنا بهذه النبذة من المعلومات المتيسرة لنا والمتعلقة بما لم يعالجه الأولون، فنسلط بعض الاضواء على جوانب مجهولة من حياة هذا المطرب الذي نحتفظ له بذكريات طريفة عن خدماته طيبة اداها في حقل الغناء التركماني.

ولئن كان علي مردان يعد ابرع ملحن عرف في ربوع الشمال فانه لا يعد صاحب احسن صوت في هذا الجزء من القطر. وباعتقادنا أن كلا من المطربين عبد الواحد كوزه جي اوغلو وهو من كركوك وزميله الراحل حيدر عبد الرحمن وهو من اربيل، وقد عاصرا المطرب علي مردان في سوالف الايام ولهما علاقة فنية معه رغم فارق السن بينهم، اقول أن هذين المطربين هما صاحبا احلى صوت من بين من غناءهم في العراق، ويمتلكان حنجرتين ذهبيتين قويتين .. في اننا لسنا الان بصدد المقارنة بين اصوات المطربين وانما نريد أن نظهر العلاقة بين عمالقة الطرب في الشمال لان الشيء بالشيء يذكر.

وهبته الفنية

إن ظهور الموهبة الفنية لدى علي مردان في الغناء والتلحين يمتد الى وقت بعيد حينما كان شابا يافعا في العشرينات، وساعدت بعض العوامل على تفتق فطرته الفنية، وبروزه في عالم الغناء والتلحين مفنان كبير.

واشتهر بادي بدء بلقب (ليلاني) بسبب انتمائه الى ناحية ليلان التابعة لمركز كركوك، الا أنه ولد وعاش ردحا من الزمن في مدينة كركوك وفي وسط غنائي معروف. فقد قضى غض شبابه بين مطربين كبار من قراء المقامات العراقية ومغنين بارعين لمقامات القوريات التي اشتهرت كركوك بها.ولعل من المفيد أن نذكر بهذه المناسبة أن قراء المقامات العراقية في هذه المدينة كانوا وما زالوا يشكلون فئتين او مجموعتين متميزتين اختصت احداهما بقراءة المقامات العراقية اثناء مراسيم الاذكار في التكايا وخلال الاحتفالات الموالد النبوية في البيوت والمساجد.

وقراء هذه الفئة يؤدون المقامات بطريقة تشابه طريقة الاداء البغدادي مع فروقات بسيطة غير ذات الشأن…

واما الفئة الثانية فقد اختص قراؤها باداء الوان اخرى من المقامات المتعارف عليها بين التركمان في مجالس الطرب وهي مقامات (القوريات) ومقامات (الغزل) ومقامات اخرى شعبية ذات طابع ارتجالي تشبه الموال وتختلف هذه الانماط الغنائية عن المقامات العراقية اختلافا متفاوتا في طريقة الاداء واستعمال الميانات والقرارات … ولقد ارتبط علي مردان باصحاب الفئة الثانية اكثر من ارتباطه بالاولى، ولذا نراه في بداءة عهده بالغناء غير متمكن من قراءة المقامات العراقية باستثناء مقام واحد يشترك في قراءته قراء الفئتين المذكورتين بنفس الاداء والاسلوب الا وهي مقام اورفة ويسمى في كركوك وانحائها باسم (ديوان). وقد اختص به في هذه المدينة وجارتها اربيل اهل اللهو والطرب دون قراءة المقامات العراقية حتى عده شكلا متميزا من اشكال الغناء العراقي.. وقد اختار علي مردان كلمات هذا المقام الذي غناه على الاسطوانة من قصيدة غزلية تركية للشاعر وهبي حيث بداها بشطر (تضرع ايله دلدن بادشاه لا يزاله سن) .. واردف بهذا المقام بستة تركمانية هي (يوكسك مناره دن اتدم كنديمى) وجرى تسجيل المقام والبستة على اسطوانة كما قلناه.

اساتذته في المقامات العراقية:

بدأ علي مردان منذ صغره يتتبع المقامات في رباط (الغوثية) القادرية المعروفة في الوقت الحالي بالتكية الطالبانية، ويقع هذا الرباط في محلة بولاق بمدينة كركوك التي تعد مهدا لنشوء المقامات العراقية.

وتابع علي مردان كبار القراء في مجالس الاحتفالات الدينية التي كانت ولا زالت تقام بمناسبة المولد النبوي ومناسبات اخرى معروفة. ويأتي في مقدمة هؤلاء الاستاذ (محمد خليل اغا) وهو من سكنة محلة المصلى بكركوك، حيث تقع دار اسرته في زقاق (الامام احمد) قرب القيصرية، وهو الذي استضافه المطرب محمد القبانجي بداره واخذ منه مقامات اهمها: (پنجكاه) الذي لم يكن احد يجيد قراءته مثله في العشرينيات في مدينة القبانجي.

وتعلم علي مردان المقامات العراقية من القارئ الكبير (الحاج نعمان بن خليفة رضوان) من سكنة محلة المصلى ايضا والمتوفي سنة 1355 الهجرية. وكان قائما على رأس جماعة من قراء المنقبة النبوية في كركوك.

واخذ علي مردان المقامات من الاخوين (الملا صابر) و(الملا طه كركوكلي) ولدي عبدالقادر. ويذكر أن المرحوم الملا صابر المتوفي سنة 1940، كان حجة في فنون المقامات العراقية. وكان القراء يأتون اليه من انحاء مختلفة من القطر للاستشارة معه في امور تخص المقامات العراقية، ويقال أن رشيد القوندرجي اختلف مرة مع احد زملائه حول التمييز بين مقامي نوا ونهاوند من حيث التسمية، واحتكما في سنة 1921 الى الملا صابر، فطلب منهما أن يقرا كل واحد منهما احد المقامين المذكورين. وعندما اسمعاه بهما، قال لرشيد هذا مقام نوا، وقال لصاحبه: وهذا مقام نهاوند، وكان احدهما يدعي العكس في التسمية.

ومن الجدير بالذكر أن الاخ الاصغر للملا صابر واعني به الملا طه كركوكلي كان قد سجل في سنة 1925 لشركة بيضافون كمياني ثلاثا واربعين اسطوانة من المقامات العراقية في الوقت الذي لم يتمكن القبانجي الا من تسجيل حةالي نصف هذا العدد. وقد سموا الملا طه دون القبانجي بـ(بلبل العراق) حيث كان الموسيقيون العازفون والمشرفون على ادارة التسجيل ينادونه بين حين واخر اثناء الغناء بهذا اللقب (راجع عن تاريخ حياة هذا القارئ الفنية مقالنا المنشور في مجلة التراث الشعبي بعددها التاسع الصادر في سنة 1978 ببغداد).

وبالاضافة الى هؤلاء القراء المشاهير اخذ علي مردان بعض المقامات – على ما رواه لي جاري المرحوم امين ليلاني – من رئيس عازفي الطبل والسرناي في كركوك الفنان المبدع (خضر بيرام جاوش) المتوفي في العشرينيات. وكان يشرف على ادارة العازفين في حفلات الزواج الشعبية ويقوم بتوزيعهم على المناطق حسب الحاجة، ويقسم الارباح بينهم، ويعطي حصتين لمن له زوجتان ! والى جانب هذا الفنان تعلم علي مردان شيئا من المقامات من عزف السرناي الشهير (صالح شيطان) وهو من سكنة ناحية ليلان … والعهدة على الراوي..

اساتذته في مقامات القوريات ومدى احتوائه لها.

ورغم اهتمام علي مردان في صغره بتتبع المقامات العراقية من اصحاب الفئة الاولى من القراء الذين ذكرناهم، فانه بدأ بعد ذلك يميل الى مرافقة المغنيين في مجالس الانس والطرب فتأثر بأصحاب الغناء تأثر شديدا ومنهم (عبس فاطمه له) و(صابر غني كها) وهما من (ليلان)، وقد اشتهرا بالمحاورة الغنائية في مقامات القويات.

ولعل اهم ما اخذه من الغناء المحلي هو المقام الشعبي المسمى بـ(كوده خويراتى) وقد تعلمه وأتقنه لدل صاحبه الاستاذ الاكبر في عصره المدعو (ياسين باغوان) المتوفي سنة 1939 تقريبا. وسجله في الثلاثينيات على اسطوانات (سودوا) السورية برباعيات تركمانية صغيرة لها دلالات كبيرة استقاها من الفولكلور، وقد بدأها بهذه الرباعية وهي ذات معنى مبهم لطيف:

زلفو حجه لر منى

دونوب قوجه لر منى

خيالو قويماز ياتم

اوزون كيجه لر منى

يخاطب الشاعر بهذه الكلمات المتغنجة حبيبته قائلا لها: انك امررت صدغك (المجعد الطويل المدبب الرأس) على (صدري وكتفي وعنقي وغير ذلك كم اجزاء جسمي) غرزا ونخسا على شكل حركات الحروف الهجائية (من ضمة وكسرة وفتحة الى السكون والتنوين) واني لشدة ما ألاقيه من تخيلات (جمالك وحسن حلك واطوارك وقربك وبعدك) لا انام الليالي الطويلة.

ولقد تميز علي مردان بين اقرانه في غناء هذا المقام كثيرا. وانه رغم مصاحبته – على ما نعتقد – المغني المعروف (امين باغوان) الذي كان يجيد طريقة اخرى لمقام (كورده) فقد غنى اللون الخاص بالمطرب (ياسين باغوان) لحلاوة الاداء بهذا اللون وسهولة تعلمه واتقانه خلافا لطريقة (امين باغوان) المعروفة بصعوبة الاداء. لذا يسمى قوريات علي مردات بـ(ياسينه كوردهسى) وقد اجاد غناء هذا المقام دون مقامات القوريات الاخرى، اذ لم يكن قارئا مجيدا لمقامات القوريات التي يبلغ عددها اربعة وعشرون مقاما. وانه كان يخلط احيانا بين بعض هذه المقامات بما لا يسوغه المختصون بفن القوريات الغنائي، فمن تسجيلاته التي نحتفظ بها تسجيل لمقام عده المقام المسمى (مال الله). جمع فيه اجزاء متجانسة من مقامات مختلفة، لفقد بدأ هذه القطعة المسجلة بتحرير من مقام (نوباتجى) وضمنها ميانات وقرارات من مقامات (كورده) و (مال الله) و(يولجي) اي (عيده له) وعدها مقاما واحدا. إن هذا الطرز من التركيب الغنائي وأن كان امرا سليما ومستساغا في قراءة المقامات العراقية الا انه غير جائز في غناء مقامات القوريات المسماة بـ(الاصول)، حيث يغنى كل مقام منها بنغمته بصورة مستقلة بدءا من التحرير وسيرا بالميانات والقرارات الفواصل وانتهاء بالقرار الختامي او (التسلوم) وذلك بالرغم من تعدد الاصوات التي تشكل النغمة الحقيقية لمقام القوريات .. ولهذا السبب لم يكن علي مردان مغنيا بارعا في غناء مقامات القوريات باستثناء مقام (كورده) السالف الذكر الذي حافظ على اصالته الفنية.

شهرته في تلحين الاغاني

اشتهر علي مردان في عقود الثلاثين بغناء البستات الشعبية ولاسيما تلك التي لحنها بنفسه، ولتن كان الشك يخامرنت في موضوع عائدية الاغنية التي سجلها بصوته على الاسطوانات بكلمات تبدأ بـ(امان حسن قلعة ايچنده) فاننا نجزم بصورة قاطعة انه لجن لاول مرة من تاريخ البستة التركمانية المشهورة (ليلانى قيزى) اي الفتاة الليلانية، وقد سجلها بصوته على الاسطوانات في سنة 1934. وكان الباعث على تلحين هذه الاغنية هو انه احب فتاة تركمانية تدعى (نبيهة) حبا طاهرا بقصد الزواج وقد خطبها فعلا من اهلها الا ان والدة الفتاة وتدعى (عشه) اي عائشة رفضت طلبه في النكاح لاعتبارات اجتماعية كانت سائدة في ذلك الوقت .. ولشدة تألم المطرب من هذا الحادث شحذ قريحته وهيأها لابراز اول عمل فني له تمثل باغنيته الاولى التي صارت سببا لذيوع شهرته. وقد ادى هذا الحادث الى تفجير طاقاته الفنية الكامنة في نفسه، فاتبع تلك الاغنية باغنيته ثانية زادت في شهرته. وهي اغنية تركمانية ايضا تضمنت شكوا مريرا وعتابا لاذعا من ام خطيبته التي امتنعت عن تزويج بنتها له.. ونعتقد أن اقساما من كلمات هاتين الاغنيتين هي من نظم الملحن نفسه، وتبدأ اغنية (ليلانلى قيزى) بهذه الرباعية:

گوزم ليلانلى قيزى

يواخلرى قيرمزى

بكزر عجم الماسنه

يولدن چيخارتدى بيزى.

بمعنى: (عيني بنت الليلانية .. خدودها الحمر تشبه التفاح العجمي .. لقد اضلتنا الطريق السوي).

وأما الاغنية الثانية فتبدأ برباعية:

داغلره سپدم اكين

گيدرتدم اليمده كين

نه كاور نه مسلمان

اولماسين منم تكين … امان عشه.

بمعنى: (القيت الحب متفرقا في الجبال وزرعته … وبذلن ما في يدي من مال في سبيلها.. رب لا تجعل احدا من المسلمين والنصارى مثلي … يتظلم اليك من جور عائشة)…

ورغم سذاجة هذه الكلمات فان وقعها كان مؤلما في نفوس ابناء المنطقة لانها انسابت الى قلوب المشفقين بلحن شجي يرنو اليه الانسان رنوا شديدا.

الخاتمة

انه بالرغم من مرور اكثر من نصف قرن على هذه الاغاني فان دويها الهائل لازال يرن في الاسماع، وإن المطربين الشباب لازالوا يعيدون اغنية (عشه) وقوريات كورده في الحفلات الغنائية وفي برامج الاذاعة والتلفزيون، دون اغنية (ليلانلى قيزى) لشعورهم بحرج او نوع من الخجل في اعادتها بنصها، مع أن المطرب علي مردان كان قد امتلك الشجاعة الادبية عندما قام بتلحينها وتسجيلها على الاسطوانات قبل اكثر من خمسين عاما، في الوقت كان التقيد بالعادات الاجتماعية على اشده.

ولابد لنا أن نتفكر قليلا في امر المسيرة الغنائية الكبرى للمطرب علي مردان ونتساءل عن مصيرها لو انه كان قد تزوج من تلك الفتاة التركمانية، فلعلنا نخرج بجواب يقنعنا أن ذلك التيار كان ياخذ بلا ريب شكلا آخر غير هذا الشكل، ومجرى جديدا غير مجراه الحالي. ولله في خلقه شؤون.